بلال اللقيس
الإثنين 19 أيار 2025
أقلّ ما يقال فيها أنّها سابقة أعادت للشعوب الأمل والشعور بالكرامة والمكانة. حرّرت الأرض وهزّت مباني الكيان العدو وجعلت القلق ملازمه. لو لم يكن منها إلا أن أفشلت مسار التطبيع وحرمت الكيان من اعتراف طالما سعى إليه، لكفى. فكيف وأنّها تصدّه عن إحكام سيطرته على المنطقة وتحويلها على مقاسه وشاكلته.
هي المقاومة، أضافت إلى سجلّها في مواجهة عدو لبنان والعرب أنموذجاً اجتماعياً وسياسياً حوّل الطاقة المجتمعية عن الاصطراع الداخلي والاقتتال الدموي إلى التصدّي للهيمنة وتثبيت معالم كينونة لبنان، فولدت إرادة تعطي بدل أن تأخذ، وتحفّزنا للانتقال من المجال الضيّق إلى الوطني، ومن الجزئي إلى الكلي، كأكبر تجسيد لمعنى المواطنة.
كان آخر التمظهرات معركة «طوفان الأقصى»، فـ«أولي البأس»، حيث تولّد تعريف أرقى للصراع حين تعمّقت حقيقته وتبرّزت أكثر؛ لم يعد محوره صراع الشمال والجنوب ولا الذكر والأنثى ولا اللون ولا العرق... صار محوره الصراع على الكرامة الإنسانية والحضارة وماهيتها. فسرعان ما كشفت «طوفان الأقصى» و«أولي البأس» العطوبة البنيوية والأخلاقية للنظام الغربي وربيبته إسرائيل، وأظهرتا للعالم أن قوة الكيان ليست إلا بالقتل ومزيد منه، وأنه أعجز عن تحقيق أيّ من أهدافه أو تحويل منجزاته القتالية إلى وقائع سياسية، ولا بد أنه انكشف أكثر أن حربه بلا أفق وبيته الداخلي أكثر تمزّقاً بعد ما يقرب من عامين.
ورغم ذلك، وكعادتهم الأولى، اختلف اللبنانيون على «طوفان الأقصى» و«أولي البأس» وموقفهم منهما وتقييمهم لهما: بعض رآها أنها عزّزت شرعية المقاومة بينما رآها آخرون أنها انتقصت منها. ولمّا ينتهِ الجدال بعد ولن! وبين الرأيين سيكون الحسم لمن يقدّم سرديته ورؤيته التي تستجيب بفاعلية وشمول للأذواق السليمة والعقول والقلوب.
أثار خصوم المقاومة في لبنان اليوم نقاشات حادّة بوجه المقاومة منذ فجر تأسيسها، تمّ نقضها بالحجة والبرهان والسلوك في خطاب المقاومة وأحياناً كفانا العدو الصهيوني المؤونة (العدو بشخص نتنياهو كفى أهل المقاومة الرد على خصومها في اتهامات عدة).
أخيراً، هُرعوا إلى أنّ الحلّ في الدولة وفي الحياد الإيجابي، لأن المقاومة لم تحم وتردع بزعمهم! لم يبذلوا عناء الإقناع ولا التوضيح لزعمهم. لم يقدّموا طرحاً ولا نظرية ولا حتى سلوكاً، بل قوام طرحهم هو البحث في كيفية إضعاف الطرح المقابل وتضعيفه. لم يوضحوا ماهية الدولة ولا الحياد الإيجابي ولا كيف تتحقق حماية موثوقة ومستدامة لدور وهوية ورسالة لبنان ولا لمكوّناته.
الأمر البيّن أنّ فهم خصوم المقاومة للسياسة هو على طريقة الكبسولة لا على السياقات والترابطات وفلسفة التاريخ. ينتزعون فكرة يجردونها عن سياقاتها، لا يجيبوننا عن ماذا كان قبل وماذا بعد وما هي الخطوة التالية. لا يستحق البحث إذا كان من العقل أن يُجرّد شعب من قوّته دون بديل موثوق، خصوصاً في بيئة دولية سيالة ومتقلبة تتم فيها شرعنة وقوننة الاحتلالات وتموت فيها المؤسسات الدولية والقواعد (التي لم يعمل بها يوماً واضعوها). ولا يبذلون عناء السؤال: كيف نقنع الإرادة الشعبية أو جناحاً كبيراً منها بالانتقال الآمن قبل أن تثبت السلطة مصداقيتها وثقة الناس بها وتراكم ذلك، فالعلاقة بين الشعب والسلطة هشة وتعوزها الثقة منذ نشأة لبنان.
الإشكالية المنهجية الثانية عند خصوم المقاومة، أنه لو جاريناهم بدعواهم أنّ المقاومة خسرت الحرب الأخيرة - وهو ما نرفضه وتدحضه الوقائع الظاهرة كلها - فلنا أن نسألهم: لماذا تبنون النظرة إلى المستقبل على فرضية الخسارة الأخيرة وليس على مسار عقود من الانتصارات والنجاحات التي حققتها المقاومة؟ إن دلّ ذلك على شيء، فيدّل على لا علمية خصوم المقاومة وانتقائية منهجهم وأنّهم يستبطنون مسبقاً مراداً ما وليسوا جادين في التفكير الحر لتحقيق أمن وطني واقعي.
كما ويدلّل على أنّهم غرباء عن فلسفة وثقافة وقيم المقاومة ونهجها وطريقتها، فالمقاومات هي ثقافة إرادة وعزم موضوعها التحرر والكرامة وحسبتها تقوم على توقع لكلفة أقل بكثير من كلفة الخضوع. المقاومة نظرية تؤمن أن القضية الحقّ والدم الشفيق الصادق المحب للحق ينتصران على سيف التسلط والهيمنة والتجبر إذا أحسِن العمل وأحكِم المنهج. لولا ظاهرة المقاومة والدفع الذي تحدثه عبر التاريخ لتأبّد حكم الطواغيت ولاستدام عسفهم وتنكيلهم ولاستخفوا بالناس واستعبدوهم.
فهم خصوم المقاومة للسياسة هو على طريقة الكبسولة لا على السياقات والترابطات وفلسفة التاريخ
ثالثة أزمات خصوم المقاومة أنهم يقعون في أخطاء قاتلة على مستوى منهجهم المعرفي. كل شيء غير حسي أو غير ملموس غير موجود بالنسبة إليهم، وكل ما وصلوا إليه هم هو الصواب وما لم يصلوا إليه هو الخطأ، علماً أن أغلب الصواب في ما ننكر! يكرهون الحوارات العميقة ونقاشات الجيوبوليتيك واستقراء التحولات، ويميلون إلى النبوءات والرغبات. يستهويهم التأريخ والمآثر لكن ينأون بأنفسهم عن علم التاريخ والعبر. والأخطر من هذا أنهم يتعاطون على أن كل ما يصلهم من أميركا هو الصحيح وهو القدر المحتوم، علماً أن العقود الخمسة الأخيرة كفيلة بإثبات فشل أميركا في التوقّع.
بكل الأحوال، إنّ المقاومة هي حق، بل واجب، ومشروعيتها ذاتية. ونحتاج أن نثبت بالأدلة إذا كانت المقاومة فشلت في معركة «أولي البأس». السؤال الذي تجب الإجابة عنه: كيف بنا لنحدد معايير ومدارات الربح والخسارة والنجاعة من عدمها؟!
أهل المقاومة يرون أن رصيد المقاومة ازداد في المنطقة والعالم، وأن مجتمع المقاومة أثبت أنه من النوع الذي لا يُهزم مهما شقّت الظروف ويرى في تنوع لبنان وحريته أحد أسرار قوّته وقدرته، وأنّ الأخلاقيات وأنظومة القيم المجتمعية هي ميزة لبنان في محيطه، وتراهم يتوسّمون أنّ الصمود الأسطوري والصبر الجميل الذي أبديناه في لبنان (وغزة أساساً) بدآ ينقلان الكيان من التخبط الداخلي إلى التفكك والصراع، ما جعله يستعيض بالإبادات عن غياب الرؤية، وأن أميركا اليوم مضطرة إلى إعادة النظر في سياساتها ومقارباتها بما يعمّق مشكلة الكيان العدو.
ناهيك أن تحديد «الربح والخسارة» أمر غير علمي الآن لأنّ حالة الحقد الإسرائيلي والشعور بالخيبة والإحباط لا تزال قائمة، وأن توالجات دولية تشق طريقها فعلاً نحو عالم مختلف، وأن الزلزال لا يزال يضرب ولم يستقر المشهد بعد على صيغة وقد يطول التأرجح الذي يضرب المنطقة والعالم لسنوات قبل أن يستقر على صورة نهائية. ليس واضحاً إذا كانت أميركا وإسرائيل قادرتين على مواجهة التحديات العاصفة وإلى أي مدى يمكن اعتبار الوقت حاكماً عليهما وقاتلاً لسيرهما المتعثر.
بالنسبة إلى أهل المقاومة إنّ هذه الجولة الصراعية نقلت المنطقة والعالم ورشّحته إلى حالة بمعايير جديدة ومفاهيم يتم اكتشافها وإنشاؤها من رحم الصراع المحتدم الآن. فمن افترض أن المعايير التي ستحكم صورة المستقبل ستكون هي المادية، أي العسكرية والاقتصادية والتقنية، قد يكون متعجّلاً بعض الشيء فربما نكون أمام معايير جديدة أكثر تأثيراً في رسم صورة المستقبل، إن كانت معرفية أو قيمية أو أخلاقية، فالعمل جار لإعادة لتعريف القديم والمعايير في تحول وإعادة تثقيل.
وإذا تنبّهنا أن النظام الدولي لم يعد مفيداً لأوليغارشيات وازنة من الدول الغربية فضلاً عن غيرها من القوى التعديلية، فيعني ذلك أن ما يحدث اليوم هو «إنشائي»، أي إن معاييره تتولّد من رحمه. لذلك، لا يستعجلنّ أحد النتائج، قد تتقدم المجتمعات والقوى الحضارية وتتعمق اليقظة العالمية وتربو المعايير الأخلاقية والشرعية على المادية.
أكبر أخطاء البنائين الاجتماعيين والاستراتيجيين أنهم يغفلون بينما يشرعون في التقييم أن اللحظة العالمية لا تقف على أرضية صلبة بل رخوة جداً وسيّالة. العالم يتحوّل والميزان يتأرجح والمد والجزر قائمان. لذلك وجب علينا كلبنانيين السعي لاكتشاف الثابت في ظل المتغيرات الضاربة وأن نعمل بعقلية «إدارة الأزمة» والبحث في أفضل السبل وأكثرها استدامة وليس بإغلاق العقل بأحادية وسطحية ترفضان بقية الاحتمالات وتكرران مصطلحات وشعارات ليست لها مصداقية ولا واقعية.
نعم، يجب أن نبحث عن ثابت. وإذا تعذّر إيجاده فلنبحث عن مؤشر واتجاه له نوع من الثبات نرتكز عليه. في استقراء عالم اليوم، قد يكون المؤشر أو الاتجاه شبه النهائي الذي يمكننا الأخذ به لبناء سياسات المستقبل وتموقعات دولنا هو أننا نغادر «محورية الغرب». القوة تنزاح وتتوزع كما أن الولد الأميركي ينفصل عن والديه الأوروبيين تاركهما لقدرهما بعد أن باتت كلفتهما ثقيلة على دافع الضرائب عنده، يبحث عن فرص جديدة في عالم يولد كحاله عندما غادر النظام الأوروبي بحثاً عن فرص وحلم وهرباً من أثقال ومتاعب النظام في أوروبا. يقابله نهوض ويقظة وإرادة مناوئة تبحث عن المكانة وتقدّم خطابها ومعاييرها.
لذلك، لا يستعجلنّ أحد التقييم، فالاتجاهات الدولية مفتوحة على احتمالات عدة وصمود جبهة المقاومة الأسطوري القائم الآن إذا ما استمر سيكون له دور كبير في تسريع التحولات وترسيخها. فلنتحرر من المسبقات في تفكيرنا ومن الحتميات ولنوسّع دوائر التفكير ولا نستغرق في الاستعارة من الخارج، بل علينا أن ننتج ما يشبهنا، ولنجرب الحوار العلمي الشجاع لإدارة المرحلة بوحدة وثبات، إذ لا طريق آخر لنا غيره، علّنا نعيد إنتاج واقعنا بطريقة أفضل والاستفادة من فرص قد تلوح في الأفق على وقع التحولات الكبرى.
باحث لبناني